لماذا لا يستجيب الله تعالى دعائنا…؟

كلما احتدمت المعركة بين الحق والباطل في ‫‏فلسطين والسودان ‫‏وسوريا ومصر والعراق…. الخ يلجأ المؤمنون الى الدعاء، في السر والعلن، في المحافل والمجامع، وفي خلوات الافراد، وكلما زاد حمام الدم، وتمكن اعداء الحق، وسطوا على العباد والبلاد، وحفروا للمؤمنين أخاديد العذاب، يتسارع ويتصاعد وتزداد وتيرة الدعاء، بالنصر والفرج.

فاذا لم تتحقق امنيات المؤمنين والداعين المتضرعين؛ وزاد تمكين الباطل واهله تدخل الظنون، والشكوك في نفوس بعض الداعين والمتضرعين وبحسب مراتب ايمانهم ويقينهم بربهم، فيقول البعض دعونا ودعونا وما من نتيجة.,

ويقول البعض الاقل ايمانا اين الله ؟!!!!.

والقول الفصل في هذا الأمر؛ أن معرفة الله تعالى هي سر التعامل معه سبحانه؛ لذلك قال تعالى:

 {انما يخشى الله من عباده العلماء} أي أن اكثر الناس خشية لله هم (العلماء) والقصد بالعلماء هنا ليس دارسي العلو الشرعية والمتخرجين من مساجدها وحلقها، بل العلماء بالله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه، فهذه المعرفة سر الايمان، والارتباط به سبحانه، من أهم اسرار هذه المعرفة، هي العلاقة الناظمة ما بين الخالق والمخلوق، فمن لايعرفون الله حق المعرفة يتصورون انها علاقة تشبه العلاقة بين ملوك الدنيا ورعاياهم، فيطلب الشخص من ملكه، فان كان مرضيا عند الملك اجابه لما طلب فورا؛ وربما أكثر من ما طلب.

نموذج للانحراف العقدي

 سؤل يهودي يعبد الله تعالى على طريقته 60 عاما عند (حائط البراق) المغتصب من المسجد الاقصى المبارك، ماذا كان يدعو خلال هذه الفترة الطويلة؛ فقال: (كنت ادعوا حائطا وليس إلها قديرا).

لذلك في القصة ذات المغزى العميق؛ تصوّر اليهودي ان 60 عاما لم تكن كافية لان يسمع الرب دعائه فيستجيب لما طلب، فكان رد فعله انه تصور انه يطلب من حائط لا من اله قدير!.

الخلل ليس في الخالق جل وعلا، بل الخلل في الانسان، فالله تعالى ملك يحكم في ملكه ما يريد، وقت مايريد، كيف مايريد، وليس لمخلوق ايا كان وصفه وصفته ومكانته ان يتدخل في سير التقدير والتدبير الالهي، قال تعالى {لا يسال عما يفعل}.

استجابة الله لنبيه

ولتقريب الصورة، اليكم الحكاية التالية من وحي السيرة النبوية العطرة:

 لايختلف المسلمون ان اكرم من على الارض، واعظم من خلق الله تعالى من مخلوقاته هو محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الخاتم، والصفي، والخليل، ومن وصل سدرة المنتهى التي لم يجرء على التقدم اليها اكرم ملك في السماوات جبريل، كما ورد في حادثة الاسراء والمعراج.

 في يوم سال مشركو مكة اليهود عن طريقة لافحام النبي، واحراجه امام العالمين، بعد ان تهاوت بايديهم الحجج، وصارت دعوته تنتشر في الافاق، فقال اليهود اسالوا محمدا عن قصة الفتيان (اصحاب الكهف) اذا عرفهم فهو نبي، والا فهو كذاب.

فرح المشركون بهذا الأمر الفاصل، وجاءوا محمدا -صلى الله عليه وسلم- يهرعون اليه ويسألونه عن الامر، فقال لهم (صلى الله عليه وسلم) غدا اتيكم بالخبر.

 نبي الله، وخاتم رسله، وحبيبه، وصفيه، عنده ثقة كاملة بربه، وبات محمد ليلته ينتظر من حبيبه الرد، وما من رد، ولاجائه الوحي، ولا راى رؤية، ولا اي من طرائق الوحي التي عرفها.

احرج الرجل، ومضى يوم، ثم اخر، ثم ايام، ثم اسابيع، وسرت في مكة المقالة، والاستهزاء، والسخرية، فقد مضى شهر وما من رد!!!.

ثم تنزل سورة الكهف المعروفة عندنا بعد شهر؛ تؤدب محمدا صلى الله عليه وسلم في اسلوب تعامله مع الرب، قال له الله العظيم

{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} حتى وان كنت محمدا صاحب المقام الرفيع، والشفاعة، والحظوة، والمكانة، لا يسمح لك ان تتألى على الله.

 هو الملك لاينازعه في ملكه احد كائنا من كان، لايغفر الذنوب الا هو، ولايرزق الا هو، ولايعطي ويمنع الا هو، وقت ما يشاء، وكيف ما يشاء، وبقدر ما يشاء، ومن ذلك اليوم تادب محمد (صلى الله عليه وسلم) مع ربه حتى قال (ادبني ربي فأحسن تأديبي).

واخيرا؛ ادب الله تعالى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يوم غزوة الخندق، فيصوّر القران المشهد، شيء مرعب، يقول تعالى:

{إذ جاءوكم من فوقكم، ومن أسفل منكم}

وهنا يجسد حالة الرعب {واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر}

وهنا يصل المشهد ذروته {وتظنون بالله الظنونا}.

 تصور ان جهابذة وقادة واوفياء من تبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم بدئوا يظنون بربهم ظنون لم يحددها القران.

فهم يعرفون ان تحالف قبائل العرب امام الخندق، واليهود من خلفهم إذا أطبقوا عليهم، فسيبيدون المدينة، ومن فيها من رجال، وتنهي الدعوة، وكأنك يا بو زيد ما غزيت! لكن؛ بعد التأديب جاء النصر.

قانون الدعاء في القران

هذه العبارة مقتبسة من دروس الشيخ محمد راتب النابلسي خلال حديثه عن هذه القضية العظيمة، وهي تشير بعمق إلى أن للدعاء قانونا قرآنيا من استوعبه وبلغ ما فيه من حكمة وصل لفهم فلسفة الدعاء كوسيلة بين الرب والعبد.

فمن لم يعرف الله تعالى في صفات كماله وجماله وحكمته حق المعرفة، ويحيط ببديع صنعه، وحكمته، وجبروته، وقدرته؛ فليظن بالله ما يريد، ويشك فيه كما يحب، ويقول عليه ما يشتهي، وذلك لن ينقص من ملكه ولاحكمه ولا حاكميته شيء، ولكنه سيعيش معذبا، تقتله الشكوك، وتاخذه الهواجس، وتخنقه التسائلات، وتبرحه الهموم، وكفى به عقابا لمن ينكر ربه..

فالدعاء من أرق الصلات التي تربط العبد بربه، فهو باب مفتوح على الدوام، لا يغلق دون أحد، ولا يحتاج إلى إذن دخول ولا موعد مسبق، رحم الله الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي كثيرا ما ردد في خواطره: «إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله، فانظر في مقام دعائك عنده، فإن كنت تدعوه وأنت مطمئن أنه سميع مجيب، فقد علمت من هو ربك ومن أنت عبده».

وحين نسمع قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} الأنبياء: 84 والتي تكررت في القرآن في مواقف مختلفة؛ مع نوح ويونس وأيوب وزكريا عليهم السلام، نتعلم من الأنبياء آداب الدعاء، ونفهم كيف نتلقى الاستجابة ونفهم مغزاها.

نوح عليه السلام قال:  {رَبِّ إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِر} لم يحدد كيف ينتصر الله له، ترك الأمر لمولاه.

ويونس عليه السلام قال في بطن الحوت: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لم يطلب الخروج صراحة، بل أقر بالذنب وتوسل بالتسبيح، فكانت الاستجابة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ},

يعلمنا كتاب الله أن الدعاء ليس كلمات مجردة تقال، بل هو حالة روحية تفيض فيها النفس خضوعا، ويذوب فيها الكبرياء، ويصعد منها عبير الإيمان الصادق إلى السماء.

ويلفت الشيخ الشعراوي في خواطره النظر إلى أن الاستجابة ليست بالضرورة أن تُعطى ما سألت، بل قد يعطيك الله ما هو خير لك مما سألت، فربما دعوت بشيء لو أخذته بعينه لكان سبب هلاكك، والله بلطفه يصرف عمن دعاه السوء بمقدار دعائه وخضوعه وتذلله، ثم تكون الإجابة بعلمه الذي أحاط الوجود وكل موجود؛ العلم الذي لا تحده الأزمنة ولا تضيق به الأمكنة، يقول رحمه الله: «الناس يظنون أن تأخير الإجابة إهمال، ولكن الله لا يُهمِل، بل يُمهِل ليعطيك على قدر نضجك الإيماني».

وليس في الدعاء ساعة حظ، ولكن فيه ساعة صفاء، متى صفا قلب المؤمن من شوائب الغفلة واستشعر قربه من الله، كان دعاؤه أقرب للإجابة.

واكد القرآن على أن مواطن استجابة الدعاء تكون في الشدة، وفي لحظات الضعف والإنابة، وعند السجود والخضوع والانكسار خصوصا في الأسحار.

{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}

الشعراوي علق بكلام غاية في الروعة على الآية يقول:

 «ليس الاضطرار في المال أو المرض فقط، بل اضطرار الروح حين لا تجد سندا إلا الله، فتتجه إليه بقلب منكسر، وهناك تكون الإجابة».

وإلى ذات المقصد ذهب الشيخ محمد راتب النابلسي؛ إذ يقول:

«الدعاء المستجاب له أسرار كثيرة، من أهمها شكاية الحال إلى الله، أي أن تُفضي للَّه بشكواك وما في داخلك من ألم أو ضعف، كما فعل الأنبياء».

ويمكن أن نخلص إلى إن الدعاء في ديننا من أعمق الصلات بالله تعالى، والهدف منه ليس تحقيق امنياتنا ومطالبنا واحتياجاتنا فقط، بل هو في ذاته عبادة من العبادات واجبة الأداء.

يقول الباري في سورة غافر عزوجل:

 {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.

وهنا نسب الله الدعاء إلى العبادة، ومن لم يدع ربه، كأنه مستغن عنه جل جلاله، والاستغناء عن الله كفر بنعمه وجهل بضعف الإنسان، فالدعاء جوهر العبادة، وفيه إعلان العبد افتقاره وذله واحتياجه إلى مولاه.

وقد يدعوا أحدنا فيستجاب له بعين ما طلب وعلى الفور، وقد يدَّخر الله لنا الجزاء في الآخرة، وقد ندعو بأمر فيصرف الله عنا من البلاء مثل ما دعونا دون ان نشعر، وفي كل ذلك استجابة تؤكد ان من رفع يديه الى مولاه لا يردهما صفرا قط.

شاهد في ذات السياق ايماننا في محك الاختبار امام ما يجري من فتن هذه الأيام

Scroll to Top