كيف يحول الزمن نجاح مؤسساتنا إلى فشل؟

خلال أكثر من ربع قرن قضيتها بالعمل المؤسسي الدعوي، بمختلف المجالات والاختصاصات؛ ما بين تنظيمي واعلامي وسياسي واجتماعي، أكثر قضية رايتها متكررة ومشتركة في المؤسسات التي عملت بها هي مسألة الحديث عن القمة التي وصلت إليها المؤسسة ذات يوم، فيما هي اليوم مقيمة في القاع ويتحسر القائمون عليها أو محبوها على أيام كانت في قمة عطائها.

 فتسمع كنا وكان، وانجزنا وحققنا، وجمعنا واجتمعنا، وبنينا وانشئنا.. الخ، فيما تعاني ذات المؤسسة حالة من الركود والترهل، والمراوحة والتراجع، وغياب الإنجاز وندرة الجديد، وانفضاض الاتباع وتراجع العائدات وقلة المخرجات.

والغريب أن المتحسرين عليها وبعضهم ممن كتب له أن يساهم في إيصالها للقمة، يقف متسائلا حائرا عن السبب؛ لماذا هوينا من القمة إلى القاع؟! دون ان يهتدي للسبب، او يصل للعلة!.

وأنا أرى والله أعلم؛ أن العلة تكمن في عامل الزمن الذي يقف بالضد من أي نجاح يحققه الفرد أو المؤسسة، فالعمل الدؤوب، والتجرد والإخلاص للقضية، يفضي حتما إلى ذروة النجاح، ومنه الى قمة العطاء.

لكن؛ بلوغ القمة لا يعني نهاية الطريق وبلوغ الغاية ومن ثم الاسترخاء، بل هو وصول الى تحدي البقاء على القمة دون الهوى للقاع، والاستمرار في العطاء دون توقف، والتجديد في الوسائل والتنوع في الأدوات، وعند الركون الى النجاح، والثبات على المعطيات التي أوصلتنا إلى القمة، وعدم فهم متغيرات الزمان والمكان والظرف، يتحول الزمن إلى عامل فشل.

فالزمن قوة خفية تعمل ضد الثبات، يعمل ضد مصلحة الأشياء، فهو لا يتوقف ليحافظ على جمال اللحظة أو مجد الماضي، بل يمضي في طريقه بلا هوادة، فالجديد يصبح قديما، والمنظم يصبح فوضويا، والمتقن يصبح مشوها، واللامع يصبح باهتا، والملائم للحظة الراهنة؛ غير ملائم للحظة التي تليها.. وهكذا.

مشكلة مؤسساتنا والقائمين عليها أنهم لا يواكبون الزمن، ولا يتدارسون متغيراته، وكل إنجاز لا يواكب الزمن مآله الاضمحلال، وكل نجاح لا يتجدد يشيخ ببطء حتى يزول؛ حتى الأفكار العظيمة، إن لم ترو بروح العصر وتقدم بلغة الواقع، تفقد سحرها وبريقها.
فمرور الزمن يعيد ترتيب العالم من حولنا، فتتبدل الأولويات، وتختلف المعايير، ويصبح ما كان قمة بالأمس، نقطة انطلاق متواضعة اليوم.

ولذلك، الثبات على القمة لا يتحقق بمقاومة الزمن، بل بفهمه ومسايرته.
فالزمن لا يرحم من يظن أن إنجازه خالدا، بل يختبره بالسكون والركود.
والعاقل هو من يعقد صلحا واعيا مع الزمن، فيتعامل معه لا كعدو يريد هدمه، بل كمعلم قاس يدفعه إلى التغيير والنمو.

فالمحافظة على القمة تشبه السير عكس تيار النهر؛ ما إن تتوقف عن الحركة حتى يجرفك التيار وتنعكس المسيرة ويبدأ الانحدار.
فمن أراد البقاء في الأعلى، عليه أن يجدد نفسه كما تتجدد الطبيعة، وأن يقاوم قانون البلى بالابتكار، وأن يزرع في كل يوم فكرة جديدة تحميه من التآكل البطيء الذي يصنعه الزمن.

اقْرَأ لي كذلك

https://mohammadsadk.com/تأملات-في-سورة-الكهف-لا-أحد-فوق-التأدي/https://mohammadsadk.com/دروس-سورة-الكهف-تكرارها-يملئ-القلب-طمأ/

Scroll to Top